عصبية للأسرة أم انتماء؟

إبراهيم بن محمد الحقيل

ثمة خط رفيع بين العصبية والانتماء؛ فالعصبية للأسرة أو العشيرة أو القبيلة أو غيرها من الانتماءات يرى صاحبها أنه مفضل عرقيا على من سواه، وأن مكارم آبائه وأجداده -إن نُقل عنهم مكارم- سببها عرقهم وليس أفعالهم. وغالب هذا النوع يصاب بالنرجسية وحب الذات، والكبر على الناس؛ لمجرد أنه من آل فلان. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ‌وَغَمْطُ ‌النَّاسِ»(1). وهذا الوصف النبوي الدقيق لنفسية المتكبر تراه ينطبق على المتعصب لعرقه، وبطر الحق: هو رفضه ودفعه وعدم قبوله؛ لأنه يخالف هواه، ويتعارض مع نفسه المثقلة بالكبر والعنصرية، وغمط الناس: تنقصهم واحتقارهم والعلو عليهم، وهذه أيضا صفة ملازمة للمتعصب لعرقه أو أسرته، لا بد أن يحتقر غيره.

والغالب أن المتعصب لا يقف عند حد تعصبه لقبيلته أو عشيرته أو أسرته، بل تتسع مساحة التعصب واحتقار الآخرين في قلبه حتى يرى أن قبيلته وإن كانت أفضل القبائل ففخذه في القبيلة أفضل من أفخاذها الأخرى، ثم يرى أن أسرته أفضل أسر ذلك الفخذ الذي فضله على غيره، ثم يرى أن من يجتمعون معه في الجد الفلاني أفضل من بقية أسرته، ثم يرى أن بيتهم خير من البيوت التي تجتمع معه في الجد الفلاني، حتى يرى أنه أفضل أهل بيته. والشيطان يزين له ذلك بإظهار المواقف الحسنة للمفضلَين عنده، والمواقف السيئة للمفضولين؛ فيصدر حكمه الجائر عليهم، ويبني تعصبه على هذا الأساس. والإنسان يعيش زمنا تتعدد مواقفه فيه، وفيها الحسن والسيء، والجميل والقبيح، لكن المتعصب لا ينظر إلا لحسن من يريد مدحهم، وسوء من يريد ثلبهم، ويعمى عن بقية المواقف، وهكذا تكون نظرته لأفراد أسرته بالنسبة له، ولأسرته بالنسبة للأسر الأخرى، ولقبيلته بالنسبة للقبائل الأخرى، حتى يغمطها ولا يرى لها حسنا أمام نفسه ثم أسرته ثم قبيلته، وهذا هو بطر الحق وغمط الناس المذكور في الحديث، ولا أجد وصفا أدق من هذا الحديث في تحليل شخصية المتكبر، وتشريح نفسية المتعصب، فصلوات ربي وسلامه على من لا ينطق عن الهوى.

تحريم العصبية وتعزيز الانتماء:

لا عصبية في الإسلام إلا لله تعالى ولدينه القويم؛ ولذا وجب طرح ما يتعارض مع العصبية الدينية، مهما كان؛ ولذا قال الله تعالى ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾ [الحج: 78]، أي: سماكم مسلمين في الكتب المتقدمة، وفي القرآن الكريم. وجعل سبحانه الفخر بالإسلام أحسن القول، وأعظم الفخر في قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، أي: لا أحد أحسن منه.

والنصوص في ذم التعصب للأسرة والقبيلة كثيرة جدا؛ لأنه بلاء يزيل العصبية لله تعالى. وهي سلاح الشيطان في إضعاف الانتماء لدين الله تعالى ونصرته، ومن تلكم النصوص:

1- ما جاء في قصة إبليس وآدم عليه السلام، فإن إبليس تعصب لمادة خلقه، واحتقر آدم عليه السلام، وهذه هي العصبية العرقية. وهذه القصة كررت في القرآن في سور كثيرة؛ ليحذر قارئ القرآن من سلوك مسلك إبليس في العصبية الجاهلية. وتأمل معي ردود إبليس العنصرية لما أمره الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام كيف احتقره وأنزل من قيمته معللا عدم سجوده بذلك ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، ﴿قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 33] ﴿قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: 61] ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 76]. فالمتعصب لفرعه في الأسرة أو لأسرته أو لقبيلته ماش على خطى إبليس حين احتقر آدم عليه السلام تعصبا لأصل خلقته.

2- ما جاء في القرآن من ذم اليهود والنصارى في تعصبهم لجنسهم، وأنهم بنو إسرائيل عليه السلام، وكتبهم المحرفة طافحة بهذا التعصب، وعدم تورعهم عن قتل أطفال المسلمين ونسائهم في فلسطين وغيرها ينطلق من هذه العصبية الذميمة؛ قال الله تعالى ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، فرد الله تعالى عليهم هذا الزعم المبني على التعصب للجنس ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 80-82]؛ فالناس عند الله تعالى سواسية إلا بالإيمان والعمل الصالح. وفي آية أخرى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، فرد الله تعالى عليهم هذه العنصرية بقوله سبحانه ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [المائدة: 18].

3- حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ»(2).

4- حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ‌ادَّعَى ‌دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»(3).

5- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمُ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَفَخَرْهَا بِالآبَاءِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنُ»(4). فلما كانوا يبتغون العزة والفخر بآبائهم أذلهم الله تعالى فكانوا أهون من الجعلان، والجعلان حشرة سوداء أكبر من الخنفساء، تدفع القذر بوجهها.

6- حديث عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ رحمه الله تعالى قَالَ: «رَأَيْتُ رَجُلًا تَعَزَّى عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، افْتَخَرَ بِأَبِيهِ، ‌فَأَعَضَّهُ ‌بِأَبِيهِ، وَلَمْ يَكنِه، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي فِي أَنْفُسِكُمْ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا»(5).

ولعل في هذه النصوص زجرا لمن تلوث بشيء من التعصب لآبائه وأجداده وأسرته وقبيلته، وجعل ذلك ميزان التفضيل عنده، ومعقد الولاء والبراء. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فَمَنْ تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ أَوْ طَرِيقَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ المُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ؛ فَإِنَّ كِتَابَهُمْ وَاحِدٌ، وَدِينَهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيَّهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6).

تعزيز الانتماء للأسرة:

الانتماء للأسرة الخالي من التعصب، مطلوب ومرغوب فيه؛ لعموم الأوامر الربانية والنبوية بصلة الرحم، وترتيب الأجر على ذلك، والنهي الشديد عن قطيعتها، والوعيد المرتب على ذلك. ولا يمكن لأحد أن يصل رحمه إلا بانتمائه إلى أسرته، ومعرفته بقرابته، ومدى قربهم منه، أو بعدهم عنه؛ ليبذل لهم الصلة، وكان أبو بكر رضي الله عنه عالما بأنساب العرب، وأخذت ابنته عائشة رضي الله عنها علم النسب منه. «وكَانَ جُبَيْر بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ لقُرَيْشٍ وللعربِ قَاطِبَةً، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا أخذتُ النَّسَبَ مِن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق، وَكَانَ أَبُو بَكْر مِنْ ‌أَنْسَبِ ‌الْعَرَب»(7). واحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر في علم الأنساب؛ وذلك أن المشركين هجو النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد حسان أن يرد عليهم، لكن خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينالهم حسان في شيء من أجداده وقرابته فيعود الهجاء على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان: «لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ‌أَعْلَمُ ‌قُرَيْشٍ ‌بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي. فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ» (8).

من مظاهر تعزيز الانتماء للأسرة في الإسلام:

1- أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالبدء بدعوة عشيرته الأقربين منه فقال تعالى ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم على عشيرته وأسرته يدعوهم إلى الله تعالى وينذرهم عذابه؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿‌وَأَنْذِرْ ‌عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»(9).«قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: بللت رحمي أبلها بِلَا وبلالا: إِذا وصلتها ونديتها بالصلة» (10) والمعنى: «أَيْ أَصِلُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»(11).

2- المواريث؛ فإنها للأقربين بحسب قربهم، حتى إذا لم يكن للمتوفى صاحب فرض وارث، ولا عصبة أقربين يرثه عصبته الآخرين ولو بعدوا عنه، ما داموا هم الأقرب إليه من غيرهم؛ لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌أَلْحِقُوا ‌الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»(12). وهذا الأولى بالميراث من العصبة قد لا يلتقي مع الميت إلا في الجد العاشر أو أكثر من ذلك، ووقع ذلك كثيرا، ولا سيما في الأوبئة أو الحروب، ونحوها. وهذا يبين أهمية معرفة الأنساب، ومشجرات الأسر عند الحاجة إليها في مثل الإرث بالتعصيب عند عدم وجود رحم قريب.

3- الديات؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ قَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ، عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى دِيَةَ الْمَرْأَةِ ‌عَلَى ‌عَاقِلَتِهَا»(13).وفي رواية «فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ ‌الْعَقْلَ ‌عَلَى ‌عَصَبَتِهَا»(14).قال ابن الأثير: «‌والعاقلة: ‌هم العصبة والأقارب من قبل الأب، الذين يعطون دية قتيل الخطأ»(15).

4- القسامة؛ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‌أَقَرَّ ‌الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ»(16). قال الحافظ ابن حجر: «وَهِيَ الْأَيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ أَوْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ الدَّمُ، ‌وَخُصَّ ‌الْقَسَمُ عَلَى الدَّمِ بِلَفْظِ الْقَسَامَةِ»(17).

5- أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على هوازن سبيهم؛ لأجل قرابتهم من مرضعته حليمة السعدية، قال زهير بن صرد: «يا رسول الله إنا ‌أصل ‌وعشيرة، قد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي هن يكفلنك»(18). وفي المسند وسنن النسائي أنه أطلق السبي لأجل رحمهم(19).

والحوادث التي تعزز الانتماء للأسرة والعشيرة والقبيلة كثيرة، كما أن النصوص التي تنهى عن العصبية الجاهلية كثيرة، والناس في ذلك طرفان ووسط:

1- فطرف ينبذ الأسرة والعشيرة والقبيلة، ويعيش حياة فردية على غرار الغربيين، حتى إنه ليتنصل من والديه وأقرب الناس إليه، فلا يبر والديه، ولا يصل رحمه، ولا يعينهم على نوائبهم، ولا يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وهذ عقوق وقطيعة الرحم.

2- وطرف يتعصب لأسرته وعشيرته وقبيلته، ويفاخر على الناس بعرقه وأصله وأجداده، ويبني ولاءه وبراءه على ذلك، وهذا مذموم، وهو من أخلاق الجاهلية؛ وذلك لأن رابطة الأسرة والعشيرة والقبيلة يجب أن تكون تحت رابطة الدين، ومنضبطة بنصوصه وقواعده.

3- الخيار الوسط الذين يتعلمون من أنسابهم ما يصلون به أرحامهم، ويتقربون لله تعالى بذلك، ويجتمعون مع قرابتهم، ويواسونهم في أحزانهم، ويشاركونهم أفراحهم، ويعينونهم في نوائبهم، ويلتمسون حاجاتهم، ويستقوون بهم في رد الظلم عنهم. ولكنهم لا يعينونهم على الظلم، ولا يرفعونهم فوق أقدارهم ويحطون من أقدار غيرهم، ويجعلون صلتهم بأسرهم وعشائرهم وقبائلهم تعاونا على البر والتقوى، مع اجتناب الإثم والعدان. وكل سبيل يجمع الأسر والعشائر والقبائل يجب أن يوزن بهذا الميزان، وكل ما يصنع من مشجرات، وما يكتب من تواريخ الأسرة، وترجمات لأفرادها، وما يحفظ من أخبارهم يجب أن تكون هذه غايته؛ ليتنافس الناس في الخير والصلة، ويجانبوا شر العصبية والقطيعة.

الخميس 1 / محرم/ 1447


(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: مسلم (91).
(2) رواه البخاري (3905) ومسلم (2584).
(3) رواه الترمذي وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب» (2863) وصححه ابن خزيمة (1895) وابن حبان (6233).
(4) رواه أبو داود (5116) والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب (3955- 3956).
(5) رواه أحمد (21234) والنسائي في الكبرى (8864) وصححه ابن حبان (3153).
(6) مجموع الفتاوى (28/422-423).
(7) رواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 11) وابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير (1/ 134).
(8) رواه البخاري (3531) مسلم واللفظ له (2490).
(9) رواه البخاري (4771) مسلم (204).
(10) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 354).
(11) حاشية السيوطي على سنن النسائي (6/ 248).
(12) رواه البخاري (6351) مسلم (1615).
(13) رواه البخاري (6512) ومسلم (1681).
(14) هذه الرواية للبخاري (6359) ومسلم (1681).
(15) جامع الأصول (4/ 414).
(16) رواه مسلم (1670).
(17) فتح الباري (12/ 231).
(18) طبقات ابن سعد (1/ 94).
(19) مسند أحمد (6729) وسنن النسائي (3688).